عمار ........ وذكريات الحنين

وعاد
إلى البيت في ساعة متأخرة وقد أعياه التعب , استقبلته أمه التي هدها الكبر
وهزتها نوائب الزمن ورسمت على وجهها تجاعيد القهر والحرمان .









قالت له إيه يا بني




متى سأرتاح يا عمار ؟؟!!




أما آن لنا أن نستريح ونلقي عن كواهلنا الحزن ونزيح عن دروبنا الألم




قبل عمار والدته من جبينها وعانقها بمحبة وزين ثغره بابتسامة أشد جمالا من ضوء الشمس




قائلا : سيأتي هذا اليوم يا أحلى أم في الدنيا




استيقظ عمار قبيل صلاة الفجر




توضأ ورتل القرآن وحلقت روحه في ملكوت الله










وإذا بآذان الفجر يصدح الله أكبر الله أكبر




ردد عمار خلف المؤذن




صلى سنة الفجر في بيته




وخرج ليصلي في بيت الله




وأيقظ
أمه قبل أن يغادر وبعد أن توضأت وصلت بدأت تعد طعام الإفطار لتتناوله مع
حبيب قلبها وفلذة كبدها وشمس حياتها من ليس لها في الوجود سواه , ابنها
الغالي على قلبها عمار .




عمار طالب في كلية الهندسة




كان متفوقا إلى درجة النبوغ




بعد
جامعته كان يذهب إلى عمله في أحد المطاعم , فقد أرهقتهم صروف الزمن , وهو
ووالدته لا معيل لهما , فما لبعضهما في الوجود سوى بعضهما .




وبعد العمل يعود ليرتاح قليلا ويذاكر دروسه ويحل واجباته , ثم يخرج عمار ......




أين أنت ذاهب يا حبيبي هكذا تسأله أمه الحنون ذات القلب الرؤوم ؟؟










يجيبها عمار إلى الجهاد يا حبيبتي إلى الرباط يا أمي




تجيبه بكل حنان




إلى متى ؟؟




متى سينتهي هذا الألم ؟










متى سأفرح فيك ؟!!




أتمنى أن أراك عريسا قبل موتي




يجيبها عمار : بعيد الشر عنك , ربنا يمد في عمرك


ويقبلها من جبينها ويغادر مبتسما.



وهي تدعو له : روح الله يسهل عليك ويبعد عنك شر الناس





ذهبت أم عمار إلى فراشها لتنام




ولكن النوم لم يعرف إلى عينيها طريقا ؟




فقلبها مقبوض




تخشى أن يصيب حبيبها مكروه




تحدثها نفسها لعلي لا أراه بعد اليوم




تقلبت على فراشها يمنة ويسرة




غالبت النوم وغالبها




فما استطاعت وما أغمضت لها عينا .




ما بك يا أم عمار ؟؟




هكذا تحدث نفسها




وفجأة علا صوت غربان البين في السماء











وعلا صوت مروحياتها




وبدأت زخات الرصاص




وحمم النيران تتهاوى




انتفضت من فراشها فزعة




يا ساتر يا ساتر




الله يستر يا رب




سلام قولا من رب رحيم




وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون




الله يحفظكم يا شباب




الله يسلمكم يا شباب




الله يخليك يا حبيبي يا عمار




وأفرح فيك قبل ما أموت




وأشوف أولادك





وهكذا ظل لسان أم عمار يلهج بالدعاء




وبقيت هكذا حتى نادى المنادي لصلاة الفجر الله أكبر الله أكبر













فرددت الله أكبر عليكم يا مجرمين




الله أكبر فوق كيدكم




الله أكبر أقوى من طائراتكم ودباباتكم




الله أكبر على الظالمين




وتوضأت وصلت الفجر




وفي سجودها لهج لسانها بالدعاء لربها أن يحفظ لها حبيبها عمار




ومع تباشير الصباح وسطوع النور غادرت الغربان




فهي لا تقوى على رؤية النور وتهوي أمام سطوعه وتهوى أن تسبح فقط في بحار الظلام




وعاد عمار إلى بيته




طرق الباب




تأخرت أمه ؟




طرق الباب مرة ثانية




ما من مجيب ؟




طرقه ثالثة رابعة خامسة




خفق قلبه وتسارعت دقاته




ماذا حدث لأمي ؟؟




رجع إلى الخلف وتقدم بسرعة ليركل باب بيته الخشبي المتهالك بقوة وغضب ,




فإذا بالباب يتهاوى تحت أول ضربة , معلنا استسلامه أمام غضب عمار الجارف .









ودخل عمار البيت , وأسرع أول ما أسرع إلى محراب والدته في غرفتها




ورأى




ويا لهول ما رأى




رأى حبيبته




رأى نور عينه




رأى من كانت تتوق عيناها لفرحه




رأى أم عمار




آآآآآآآآآآآآه يا عمار




رأى والدته ساجدة




حركها فلم تتحرك




ناداها فلم تجب




صرخ بأعلى صوته فلم تسمع




بكى وعلا نحيبه فلم تلتفت







آآه يا أمي الحبيبة




وماتت أم عمار وهي ساجدة









تدعو لحبيبها




تدعو للبار بها




تدعو لمن كان يبحث عن سعادتها بل عن كل ما يسعدها




تدعو لمن كان يتقرب إلى الله ببرها وحبها والمكوث تحت قدميها لترضى




ماتت أم عمار وهي تدعو لعمار بأن يحفظه ويبقيه




ماتت وفي أغوارها كل مشاعر الطهر الجياشة




ماتت وهي تترجم دعواتها بنبض القلب ولهيب الروح وواكف الدمع




ماتت وهي ساجدة




ما
أجمل خاتمتك يا أمي هكذا قال وهو يقبلها من جبينها ولكن وهي ميتة , ها قد
استرحت يا أماه , ها قد غادرت يا أماه وتركتيني في هذه الدنيا وحيدا .




ذهبت إلى عالم الرحمة وتركتيني في عالم الغاب والذئاب













ماتت أم عمار



وبقي عمار مواصلا كفاحه في هذه الحياة



ماتت أم عمار وذهبت إلى الله بآلامها وأحزانها وآمالها وأحلامها



وتركت خلفها عمار ليعارك الحياة وتعاركه



كلما عاد عمار إلى بيته



سارع للارتماء في سرير حبيبته









يمرغ وجهه وأنفه في وسادتها ليشم ريحها ويعطر أنفاسه بعبير الماضي



وبعد الانتهاء يبحث عنها في زوايا البيت



في غرفتها



في مطبخها



في محرابها



ولكنه لا يجد سوى غبار موتها وذكريات الحنين .






فتنهمر دموع الأحزان لعلها تخفف قليلا من الألم .