الحج أعظم تجمع إنساني
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: إنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما من يومٍ أكثر من أن يعتقَ الله فيه عبدًا من النَّار مِن يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟))؛ رواه مسلم.
ما أكثر المنتديات التي يلتقي فيها النَّاسُ في شتى المناسبات!
فهم يلتقون في الأعيادِ والأفراح والأتراح، وقد أتاحَ لهم التقدمُ التكنولوجي الذي تعيشُه المعمورة في هذه الأيام أن يلتقي أهلُ المشرق بأهلِ المغرب لحضورِ حفلٍ، أو متابعة بطولة كروية، أو نحو ذلك من المهرجاناتِ و(الكرنفالات)، ولكن هذه التجمعات تبقى محصورةً بفئاتٍ معينة من الشَّبابِ أو الأغنياء أو الهواة، وليس لزامًا على كلِّ واحدٍ من الناس أن يحضرَها، ويستفيد الحاضر المتعة بشكلٍ مباشر، وغالبًا ما تُقام هذه المناسباتُ في أماكنَ سياحيةٍ لجلب الحضور، ويتوفر فيها شتى المغريات!
بيد أنه لم يحدثْ أن التقى النَّاسُ من شتى بقاع الأرضِ لقاء إلزاميًّا على الرجلِ المستطيع والمرأة المستطيعة، في سنِّ الشبابِ أو الشيخوخة، التقوا على صعيدٍ واحد، في أرضٍ جرداء، بملابس بيضاء، لغير هدفٍ دنيوي، أو كسب مادي، منفقين أموالَهم، تاركين أعمالَهم، متحمِّلين عناء السفر، إلا في مكانٍ واحد يتجدد لقاؤهم فيه كل عام؛ وهو أرضُ عرفات الطاهرة.
اللقاءُ في الحجِّ هو لقاء التجرد فوق المصالحِ والمطامع، وفوق الأهواء والشهوات، تنصهرُ فيه الأعراق، وتتوحَّدُ فيه اللهجات، وتتصافى فيه القلوب، وهي تدعو بدعاءٍ واحد، لا لغطَ فيه ولا صخَب: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمدَ والنِّعمة لك والملك، لا شريكَ لك.
فما أعذبَه من دعاء! وما أطيبَه من نشيد!
فلا سيادةَ في ذلك الموقف لغير الحق، ولا تقديسَ لغير الله، تتهاوى في ذلك الموقف كلُّ الفروقاتِ بين النَّاس، وكأنهم جميعًا أسرةٌ واحدة، أبوها آدم وأمها حواء، عقيدتها التوحيد، وربها العزيز الحميد، ونبيها سيدُ الوجود، وقرآنها دستورها الخالد، وغايتها رضاء الحق - عزَّ وجلَّ - فيجتهد المطيعُ بالقربى، ويجتهدُ المقصِّر بالتوبة، والجميع يستغفرون ويتعاونون، ويتحمَّلون ويصبرون، تجري دموعُهم على خدودِهم، وتنطلق الآهاتُ من قلوبِهم، في مشهدٍ يكاد يشبه يومَ القيامة.
فتتنزل رحماتُ الله على عبادِه، ويكلؤهم بعنايته وغفرانه، ويتوبُ عليهم أجمعين، ويباهي بهم ملائكتَه، فليس أهل السماء وحدهم منفردين بالطَّاعة، بل إنَّ في الأرضِ مَن يضاهيهم بفعلها إلى قيامِ الساعة، وإذا كان الربُّ - سبحانه - يباهي بضيوفِه من الحجيج الذين تجرَّدوا له، وأتوه طائعين ملبِّين، فيحق لأهل تلك البلاد المقدسة أن يباهوا أيضًا بمكَّةَ والبيت العتيق الذي جعله الله مثابة للنَّاس وأمنًا، وجعل الأفئدةَ تهوي إليه من كلِّ فجٍّ عميق.