افاقت أم ياسر قبل شروق الشمس بساعات، قبّلت ابنتها وفاء يديها وقدميها
وطلبت منها أن تسامحها. خرجت معها والدموع تسيل بغزارة من عينيها خوفاً
على فلذة كبدها التي لن تعود أبداً.
رافقتها الى مكان ما شمال قطاع غزة مع عدد من رفاقها في «كتائب الشهيد
نبيل مسعود»، أحد أجنحة «شهداء الأقصى»، الذراع العسكرية لحركة «فتح»،
وهناك ودعتها بنظرات الخوف والحسرة والفخر.
عندما عادت أم ياسر الى منزلها أخذت الأسئلة تلح عليها مثل طنين نحل
ناشط في خلية، وكلما عزّت نفسها عاد السؤال الأكثر الحاحاً: «كيف طاوعني
عقلي ووافقت أن تنفذ وفاء عملية استشهادية؟» قالت لـ «الحياة».
اليوم استفاقت أم ياسر باكراً، تستعجل بزوغ الشمس، تستحث الساعات أن
تمضي بسرعة كي تشرق شمس حرية وفاء (26 سنة) بعد ستة أعوام قضتها خلف جدران
سجن رطبة مظلمة موحشة.
ساعات بطيئة وثقيلة مرت عليها قبل أن يأتي أحد أبنائها ويبلغها بأن قوات
الاحتلال اعتقلت وفاء، فبكت كثيراً، ثم جاء من يخبرها بأنها استشهدت فبكت
بمرارة، ثم أنها اعتقلت فعادت الى نوبات البكاء، الى أن ظهرت بعد الظهر
على شاشة القناة العاشرة الاسرائيلية وهي تقر بثبات وثقة أنها توقعت أن
تقتل عشرات الاسرائيليين عندما تضغط على زر صغير في حزام ناسف كانت تتزنر
به.
قالت وفاء أن صورة الطفل محمد الدرة وهو يحتضر بين ذراعي والده في 30
أيلول (سبتمبر) 2000، والرضيعة الشهيدة ايمان حجو وهي ترقد في سريرها
بسلام ووجها ينضح ببراءة غير معهودة متأثرة بشظايا قذيفة دبابة اسرائيلية،
لم تغب عن بالها ورافقتها طوال خمس سنوات كانت خلالها فكرة العملية
الفدائية تختمر في عقلها.
دموع أم ياسر التي سالت في العشرين من حزيران (يونيو) 2005، عندما خرجت
وفاء لتنفيذ عملية استشهادية في تل أبيب، تختلف عن دموع الفرحة التي
انهمرت قبل أيام عندما علمت أن وفاء واحدة من 27 أسيرة وألف أسير فلسطيني
شملتهم صفقة تبادل الأسرى بين اسرائيل من جهة وحركة «حماس» و «لجان
المقاومة الشعبية» من جهة اخرى برعاية مصرية.
الفرحة تكاد تقفز من عيني أم ياسر وهي تتحدث لـ «الحياة» بحماسة وأمل
وشوق عن ابنتها الرابعة في الترتيب بين كل الأبناء والثالثة بين البنات.
ست سنوات مرت لم ترها أمها ولا أبوها ولا أي من أخوتها الثلاثة أو
وأخواتها الثماني بسبب رفض اسرائيل السماح لمن أرادت أن تفجر نفسها في
احدى مدنها أن تتلقى زيارة عائلية تعتبر حقاً لها استناداً الى القانون
الدولي الانساني ومرجعيات حقوق الانسان.
سمير البس (أبو ياسر 55 سنة) كان سعيداً وهو يستقبل أفواجاً من
الصحافيين المحليين والأجانب في منزله في أحد شوارع مخيم تل الزعتر القابع
فوق تلة عالية تطل على مخيم جباليا جنوباً وحاجز «ايرز» العسكري شمالاً
الذي اعتقلت عنده وفاء أثناء محاولة اجتيازه في طريقها لتنفيذ العملية.
صور كثيرة لوفاء تزين صدر صالون صغير في المنزل أعد لاستقبال الصحافيين ولاحقاً المهنئين.
جهزت أمها لها ملابس جديدة وحلويات وغرفة نوم في منزلها الذي يقطع هدوءه
وصول صحافيين أو مغادرتهم. وحتى أطفال أشقائها الصغار الذين ولدوا في
غيابها ارتسمت ابتسامات بريئة على شفاههم تشي بأنهم لا يعون ما يدور
حولهم.
علم أبو ياسر بنية ابنته قبل خمس ساعات فقط من موعد خروجها من المنزل.
كان غاضباً وحزيناً، رفض في السابق أن تستشهد وفاء وحرمها من تعليمها
الجامعي كي لا تخرج من المنزل، لكنه عاد ورضخ لرغبتها ووافق، كما قال لـ
«الحياة».
أم علاء زوجة عمها كانت فرحة جداً لاتمام الصفقة التي ستعود معها وفاء
الى منزلها وعائلتها، وربما جامعتها التي حرمها منها والدها حتى يضمن عدم
خروجها من المنزل وتنفذ ما جال في خاطرها كثيراً، فهي ابنته التي أمضى
سنوات طويلة في تربيتها كي تحيا لا لتقتل نفسها حتى وإن كان انتقاماً لمقتل
آلاف الفلسطينيين برصاص الاحتلال وقذائفه وصواريخه.